فصل: تفسير الآية رقم (252):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآية رقم (252):

قوله تعالى: {تِلْكَ آَيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما علت هذه الآيات عن أقصى ما يعرفه البصراء البلغاء من الغايات، وتجاوزت إلى حد تعجز العقول عن مناله، وتضاءل نوافذ الأفهام عن الإتيان بشيء من مثاله، نبه سبحانه وتعالى على ذلك بقوله: {تلك} أي الآيات المعجزات لمن شمخت أنوفهم، وتعالت في مراتب الكبر هممهم ونفوسهم؛ والإشارة إلى ما ذكر في هذه السورة ولاسيما هذه القصة من أخبار بني إسرائيل والعبارة عن ذلك في هذه الأساليب الباهرة والأفانين المعجزة القاهرة {آيات الله} أي الذي علت عظمته وتمت قدرته وقوته، ولما كانت الجلالة من حيث إنها اسم للذات جامعة لصفات الكمال والجمال ونعوت الجلال لفت القول إلى مظهر العظمة إشارة إلى إعجازهم عن هذا النظم بنعوت الكبر والتعالي فقال: {نتلوها} أي ننزلها شيئًا في إثر شيء بما لنا من العظمة {عليك} تثبيتًا لدعائم الكتاب الذي هو الهدى، وتشييدًا لقواعده {بالحق} قال الإمام سعد الدين التفتازاني في شرح العقائد: الحق الحكم المطابق للواقع، يطلق على الأقوال والعقائد والأديان والمذاهب باعتبار اشتمالها على ذلك ويقابله الباطل، وأما الصدق فقد شاع في الأقوال خاصة ويقابله الكذب، وقد يفرق بينهما بأن المطابقة تعتبر في الحق من جانب الواقع.
وفي الصدق من جانب الحكم؛ فمعنى صدق الحكم مطابقته الواقع.
ومعنى حقيته مطابقة الواقع إياه- انتهى.
فمعنى الآية على هذا: إنا عالمون بالواقع من هذه الآيات فأتينا بعبارة يطابقها ذلك الواقع لا يزيد عنها ولا ينقص، فتلك العبارة ثابتة ثبات الواقع لا يتمكن منصف عالم من إنكارها ولا إنكار شيء منها، كما لا يتمكن من إنكار الواقع المعلوم وقوعه، ويكون الخبر عنها صدقًا لأنه مطابق لذلك الواقع بغير زيادة ولا نقص؛ والحاصل أن الحق يعتبر من جانب المخبر، فإنه يأتى بعبارة يساويها الواقع فتكون حقًا، وأن الصدق يعتبر من جانب السامع، فإنه ينظر إلى الخبر، فإن وجده مطابقًا للواقع قال: هذا صدق، وليس ببعيد أن يكون من الشواهد على ذلك هذه الآية وقوله سبحانه وتعالى: {والذي جاء بالصدق وصدق به} [الزمر: 33] وقوله: {قال فالحق والحق أقول} [ص: 84] {بل جاء بالحق وصدق المرسلين} [الصافات: 37] و{هو الحق مصدقًا لما بين يديه} [فاطر: 31]، وكذا {وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق} [الحجر: 85] أي أن هذا الفعل وهو خلقنا لها لسنا متعدين فيه، وهذ الواقع يطابق خلقها لا يزيد عليه بمعنى أنه كان علينا أن نزيد فيها شيئًا وليس لنا الاقتصار على ما وجد ولا ننقص عنه بمعنى أنه كان علينا أن نجعلها ناقصة عما هي عليه ولم يكن لنا إتمامها هكذا؛ أو بالحق الذي هو قدرتنا واختيارنا لا كما يدعيه الفلاسفة من الفعل بالذات من غير اختيار: أو بسبب الحق أي إقامته وإثباته وإبطال الباطل ونفيه، وقوله: {وأتيناك بالحق وإنا لصادقون} [الحجر: 64] أي أتيناك بالخبر بعذابهم وهو ثابت، لأن مضمونه إذا وقع فنسبتَه إلى الخبر علمت مطابقته له أي مطابقة الواقع إياه وإخبارنا عنه على ما هو به فنحن صادقون فيه، أي نسبنا وقوع العذاب إليهم نسبة تطابق الواقع فإذا وقع نظرت إلى إخبارنا فرأيته مطابقًا له فعلمت صدقنا فيه؛ والذي لا يدع في ذلك لبسًا قوله سبحانه وتعالى حكاية عن يوسف عليه الصلاة والسلام {قد جعلها ربي حقًا} [يوسف: 100] أتى بمطابقة الواقع لتأويلها، وأما صدقه صلى الله عليه وسلم فهو بنسبة الخبر إلى الواقع وهو أنه رأى ما أخبر به وذلك موجود من حين إخباره صلى الله عليه وسلم فإن خبره كان حين إخباره به مطابقًا للواقع، وأما صدق الرؤيا فباعتبار أنه كان لها واقع طابقه تأويلها؛ فإن قيل: تأسيس المفاعلة أن تكون بين اثنين فصاعدًا يفعل أحدهما بالآخر ما يفعل الآخر به، فهب أنّا اعتبرنا المطابقة من جانب واحد فذلك لا ينفي اعتبارها من الجانب الآخر فماذا يغني ما ادعيته، قيل إنها وإن كان لابد فيها من مراعاة الجانبين لكنها تفهم أن الذي أسند إليه الفعل هو الطالب، بخلاف باب التفاعل فإنه لا دلالة لفعله على ذلك، وجملة الأمر أن الواقع أحق باسم الحق لأنه الثابت والخبر أحق باسم الصدق، والواقع طالب لخبر يطابقه ليعرف على ما هو عليه والخبر طالب لمطابقة الواقع له فيكتسب الشرف بتسميته صدقًا.
وأول ثابت في نفس الأمر هو الواقع فإنه قبل الخبر عنه بأنه وقع، فإذا كان مبدأ الطلب من الواقع سمي الخبر باسمه، إذا كان مبدأ الطلب من الخبر سمي باسمه الحقيق به، ولعلك إذا اعتبرت آيات الكتاب الناطق بالصواب وجدتها كلها على هذا الأسلوب- والله سبحانه وتعالى الموفق.
ولما ثبت أن التلاوة عليه صلى الله عليه وسلم حق قال تعالى: {وإنك} أي والحال أنك {لمن المرسلين} بما دلت هذه الآيات عليه من علمك بها من غير معلم من البشر ثم بإعجازها الباقي على مدى الدهر. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

اعلم أن قوله: {تِلْكَ} إشارة إلى القصص التي ذكرها من حديث الألوف وإماتتهم وإحيائهم وتمليك طالوت، وإظهار الآية التي هي نزول التابوت من السماء، وغلب الجبابرة على يد داود وهو صبي فقير، ولا شك أن هذه الأحوال آيات باهرة دالة على كمال قدرة الله تعالى وحكمته ورحمته.
فإن قيل: لم قال: {تِلْكَ} ولم يقل: هذه مع أن تلك يشار بها إلى غائب لا إلى حاضر؟.
قلنا: قد بينا في تفسير قوله: {ذلك الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 2] أن تلك وذلك يرجع إلى معنى هذه وهذا، وأيضًا فهذه القصص لما ذكرت صارت بعد ذكرها كالشيء الذي انقضى ومضى، فكانت في حكم الغائب فلهذا التأويل قال: {تِلْكَ}.
أما قوله تعالى: {نَتْلُوهَا} يعني يتلوها جبريل عليه السلام عليك لكنه تعالى جعل تلاوة جبريل عليه السلام تلاوة لنفسه، وهذا تشريف عظيم لجبريل عليه السلام، وهو كقوله: {إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله} [الفتح: 10].
أما قوله: {بالحق} ففيه وجوه:
أحدها: أن المراد من ذكر هذه القصص أن يعتبر بها محمد صلى الله عليه وسلم، وتعتبر بها أمته في احتمال الشدائد في الجهاد، كما احتملها المؤمنون في الأمم المتقدمة.
وثانيها: {بالحق} أي باليقين الذي لا يشك فيه أهل الكتاب، لأنه في كتبهم، كذلك من غير تفاوت أصلًا.
وثالثها: إنا أنزلنا هذه الآيات على وجه تكون دالة في نبوتك بسبب ما فيها من الفصاحة والبلاغة ورابعها: {تِلْكَ آيات الله نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بالحق} أي يجب أن يعلم أن نزول هذه الآيات عليك من قبل الله تعالى، وليس بسبب إلقاء الشياطين، ولا بسبب تحريف الكهنة والسحرة.
ثم قال: {وَإِنَّكَ لَمِنَ المرسلين} وإنما ذكر هذا عقيب ما تقدم لوجوه:
أحدها: أنك أخبرت عن هذه الأقاصيص من غير تعلم ولا دراسة، وذلك يدل على أنه عليه الصلاة والسلام إنما ذكرها وعرفها بسبب الوحي من الله تعالى.
وثانيها: أنك قد عرفت بهذه الآيات ما جرى على الأنبياء عليهم السلام في بني إسرائيل من الخوف عليهم والرد لقولهم، فلا يعظمن عليك كفر من كفر بك، وخلاف من خالف عليك، لأنك مثلهم، وإنما بعث الكل لتأدية الرسالة ولامتثال الأمر على سبيل الاختيار والتطوع، لا على سبيل الإكراه، فلا عتب عليك في خلافهم وكفرهم والوبال في ذلك يرجع عليهم فيكون تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم فيما يظهر من الكفار والمنافقين، ويكون قوله: {وَإِنَّكَ لَمِنَ المرسلين} كالتنبيه على ذلك. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {تلك آيات الله نتلوها عليك} أي: نقص عليك من أخبار المتقدمين.
{وإنك لمن المرسلين} حُكمُك حكمهم، فمن صدقك، فسبيله سبيل من صدقهم، ومن عصاك، فسبيله سبيل من عصاهم. اهـ.

.قال أبو حيان:

{تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وإنك لمن المرسلين} تلك إشارة للبعيد، وآيات الله قيل: هي القرآن، والأظهر أنها الآيات التي تقدمت في القصص السابق من خروج أولئك الفارين من الموت، وإماتة الله لهم دفعة واحدة، ثم أحياهم إحياءة واحدة، وتمليك طالوت على بني إسرائيل وليس من أولاد ملوكهم، والإتيان بالتابوت بعد فقده مشتملًا على بقايا من إرث آل موسى وآل هارون، وكونه تحمله الملائكة معاينة على ما نقل عن ترجمان القرآن ابن عباس، وذلك الابتلاء العظيم بالنهر في فصل القيظ والسفر، وإجابة من توكل على الله في النصرة، وقتل داود جالوت، وإيتاء الله إياه الملك والحكمة، فهذه كلها آيات عظيمة خوارق، تلاها الله على نبيه بالحق أي مصحوبة، بالحق لا كذب فيها ولا انتحال، ولا بقول كهنة، بل مطابقًا لما في كتب بني إسرائيل.
ولأمّة محمد صلى الله عليه وسلم من هذا القصص الحظ الأوفر في الاستنصار بالله والإعداد للكفار، وأن كثرة العدد قد يغلبها العقل، وأن الوثوق بالله والرجوع إليه هو الذي يعوّل عليه في الملمات، ولما ذكر تعالى أنه تلا الآيات على نبيه، أعلم أنه من المرسلين، وأكد ذلك بأن واللام حيث أخبر بهذه الآية، من غير قراءة كتاب، ولا مدارسة أحبار، ولا سماع أخبار. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وقوله: {وإنك لمن المرسلين} خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم تنويهًا بشأنه وتثبيتًا لقلبه، وتعريضًا بالمنكرين رسالته.
وتأكيد الجملة بإنَّ للاهتمام بهذا الخبر، وجيء بقوله: {من المرسلين} دون أن يقول: وإنك لرسول الله، للرد على المنكرين بتذكيرهم أنه ما كان بدْعًا من الرسل، وأنه أرسله كما أرسل من قبله، وليس في حاله ما ينقص عن أحوالهم. اهـ.

.من فوائد الزمخشري في الآيات:

قال رحمه الله:

.[سورة البقرة: آية 243]:

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ}.
أَلَمْ تَرَ تقرير لمن سمع بقصتهم من أهل الكتاب وأخبار الأوّلين، وتعجيب من شأنهم. ويجوز أن يخاطب به من لم ير ولم يسمع، لأنّ هذا الكلام جرى مجرى المثل في معنى التعجيب. روى أنّ أهل داوردان قرية قبل واسط وقع فيهم الطاعون فخرجوا هاربين، فأماتهم اللَّه ثم أحياهم ليعتبروا ويعلموا أنه لا مفرّ من حكم اللَّه وقضائه. وقيل: مرّ عليهم حزقيل بعد زمان طويل وقد عريت عظامهم وتفرّقت أوصالهم فلوى شدقه وأصابعه تعجبا مما رأى، فأوحى إليه: ناد فيهم أن قوموا بإذن اللَّه، فنادى، فنظر إليهم قياما يقولون: سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت. وقيل: هم قوم من بنى إسرائيل دعاهم ملكهم إلى الجهاد فهربوا حذرًا من الموت، فأماتهم اللَّه ثمانية أيام ثم أحياهم وَهُمْ أُلُوفٌ فيه دليل على الألوف الكثيرة. واختلف في ذلك، فقيل عشرة، وقيل ثلاثون، وقيل سبعون. ومن بدع التفاسير {أُلُوفٌ} متألفون، جمع آلف كقاعد وقعود. فإن قلت: ما معنى قوله فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا؟ قلت:
معناه فأماتهم، وإنما جيء به على هذه العبارة للدلالة على أنهم ماتوا ميتة رجل واحد بأمر اللَّه ومشيئته، وتلك ميتة خارجة عن العادة، كأنهم أمروا بشيء فامتثلوه امتثالا من غير إباء ولا توقف، كقوله تعالى: {إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} وهذا تشجيع للمسلمين على الجهاد والتعرض للشهادة، وأنّ الموت إذا لم يكن منه بدٌّ ولم ينفع منه مفر، فأولى أن يكون في سبيل اللَّه لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ حيث يبصرهم ما يعتبرون به ويستبصرون، كما بصر أولئك، وكما بصركم باقتصاص خبرهم. أو لذو فضل على الناس حيث أحيى أولئك ليعتبروا فيفوزوا، ولو شاء لتركهم موتى إلى يوم البعث. والدليل على أنه ساق هذه القصة بعثًا على الجهاد: ما أتبعه من الأمر بالقتال في سبيل اللَّه وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ يسمع ما يقوله المتخلفون والسابقون عَلِيمٌ بما يضمرونه وهو من وراء الجزاء.